براءة: إعذار وإنذار بانقطاع العصمة. فسِيحوا في الأرض: تجوّلوا فيها وتنقلوا. مخزي الكافرين: مذلهم وأذان من الله: إعلام منه تعالى ومن رسوله ببراءتها من المشركين. لم ينقصوكم شيئا: لم يخلّوا في شروط المعاهدة. ولم يظاهروا عليكم: لم يعاونوا احداً عليكم.لقد دلت تجربة الرسول الكريم واصحابه مع المشركين في جميع انحاء الجزيرة العربية انه هؤلاء لا أمان لهم ولا عهود، ولا يُؤمَن غدرُهم في حالّي القوة والضعف، بل لا يستطيع المسلمون ان يعيشوا على اسس المعاهدات ما داموا على شِركهم. فجاءت هذه السورة تأمر المسلمين بنبذِ عهود المشركين المطلقة، واتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام. وهكذا حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى محا الشرك من جزية العرب ودانت كلها للاسلام.وقد زاد اقبال العرب على الإسم بعد الحجّة التي حجّها أبو بكر سنة تسع للهجرة، وفي هذه الحجة أرسل النبيّ عليّ بن أبي طالب ليلحق بأي بكر، ويتلو على الناس قرآنا. فكان فصلا بين عهدين: عهدٍ كان الإسلام يقوى فيه شيئا فشيئا، لكن مع بقاء الشرك في بعض القبائل، وعهد آخر خلصت فيه الجزيرة كلها للاسلام. والقرآن- الذي تلاه عليّ على الناس، وفَرّق الله به بين هذين العهدين- هو هذه الآيات الكريمة من سورة التوبة.{بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين}.هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم أيُها المسلمون من المشركين، فيها إنذار بقطع تلك المعاهدات.{فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين}.قولوا أيها المسلمون: سِيروا في الأرض وانتم آمنون لا يتعرّضون لكم أحدٌ من المسلمين بقتال مدة أربعة اشهر، تبتدئ من عاشرِ ذي الحجّة من سنة تسع للهجرة (وهو يوم النحر الّذي بُلِّغوا فيه هذه الدعوة)، وتنتهي في العاشر من شهر ربيعٍ الآخِر من سنة عشر. انتقِلوا طوال هذه المدة حيث شئتم، وانتم تفكرون في عاقبة أمركم، ثم تخيَّروا بين الإسلام والاستعداد للقتال، واعلموا انكم لن تُعجزوا الله إذا أصررتم على شِرككم، بل سيسلّط عليكم المؤمنين ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم به. والعاقبة للمتقين.{وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} هذا بلاغ من الله ورسوله إلى الناس كافة، في اجتماعهم يوم النّحر من الحجّ الأكبر، يصرح بالبراءة من عهود المشركين.{فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله}.فيا أيها المشركون الناقضونَ للعهدِ: إن تُبتم ورجعتم عن شِرككم بالله، وعن خيانتكم وغدْرِكم، كان ذلك خيراً لكم في الدنيا والآخرة، أما ان بقيتم على ما أنتم عليه، فاعلموا انكم لن تُفلِتوا من سلطان الله ولا من وعده لرسوله وللمؤمنين بالنصر عليكم.{وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.وبشّر أيها الرسول الكريم جميع الكافرين بعذاب أليم في الآخرة.{إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ}.أما من عاهدتم من المشركين، فحافَظوا على عهودكم ولم يُخِلّوا بشيء منها، ولم يُعِينوا عليكم أحداً- فأوفوا لهم عهدهم إلى نهايته واحترِموه {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} الذين يحافظون على عهودهم.وفي هذه الآية دليلٌ على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهدُ معقودا وتصريحٌ بأن العهدّ المؤقت لا يجوز نقضُه الا بانتهاء وقته، هذا إذا حافظ العدو المعاهد على ذلك العهد، فان نقض شيئا منه اعتُبر ناقضاً كما قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً}.ورى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحَجَّة في مؤذِّنين بعثَهم يوم النحر يؤذنون بِمِنَى: إن لا يحُجّ بعد العام مُشرِكن ولا يطوفَ بالبيت عُريان، ثم أردف بعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره ان يؤذن ببراءة، عين يتلوها على الناس.